بــــائـــع الــحــروف
هكذا كان معلمي ، لكل يوم إمدادات و لكل حصة شروط وواجبات و طلبات ، و هكذا
عهدته و عهدت جمله الآمرة :
- حذار ألا تذكروا أولياءكم غدا بثمن الدفاتر التي منحتكم إياها ؟
- هل أحضرتم ثمن كراء القصص و نقوذ تعاونية القسم ؟
- إياكم أن تنسوا شراء الصور و الملصقات لتزيين جدران القسم
و الغريب انه استطاع تدريبنا و تعويدنا على طقوسه و أوامره اليومية ، و الأغرب أن أي أحد من أوليائنا لم يحتج أو يستفسر عن شرعية هذه المكـوس التـربويـة ، مـما كان يزيد الأمر تفاقما و استفحالا و يفتح شهية معلمنا لمعاودة الطلـب و تنويع مضاميـن و محتـويـات جـمـل أوامـره ، و تكييفها مع مواضيع الحصص المقررة و مسايرتها للرصيد اللغوي المروج ، و ذلك للتغطية على سلوكاته المشبوهة و لتحقيق الفائض من وسائل الإيضاح و الاستهلاك .
و الجميل أن إمدادات التلاميذ كانت تتباين في كمها و جودتها بحسب المستوى الاجتماعي لكل واحد منا ، ففي الوقت الذي كان " إسماعيل " يجلب كيسا بلاستيكيا مملوء بالتفاح الأحمر الطازج المستدير ، كان " الجيلالي " يكتفي بإحضار تفاحة خضراء يابسة ، تزينها ثقب سوداء عفنة تمتد من سطحها إلى لبها ، التقطها ، كما اخبرنا ، من مزبلة " سويقة " حيه .
لن أنسى يوم الزمنا المعلم بإحضار كأس من زيت الزيتون ، فكان " الجيلالي " و على غير عاداته ، أول الممونين . و حدث أن أحضر قنينة من الزيت أثارت جشع معلمنا ، فرأيته يمسكها بين يديه و يتطلع للونها الغريب بنظرة ملؤها الحيطة و الحذر و الشك . فتح سدادة القنينة و أدخل خنصر يمناه في فوهتها ثم لعق ما علق به من زيت . كانت يومها آخر حصة أسمع فيها صوت معلمي الأجش ، فما إن أخرج إصبعه من بيت شفتيه حتى تدلى لسانه على ذقنه و فقد منذ ذلك اليوم القدرة على تحريك عضوه الرخو الثرثار و على النطق نهائيا . و قد اعترف لنا " الجيلالي " بعد تلك الواقعة أنه وضع في الزيت " عشبة " أشارت عليه بها زوجة أبيه " الشوافة ...
اعتقدنا أنها النهاية ، و أن زمن الإعانة و التموين و الإمدادات قد ولى . ودعنا معلمنا بإشارات و إيماءات حزينة إلى أحد مكاتب الوزارة التي تتطلب أعمالا يدوية استقبلنا معلمتنا الجديدة واقفين منشدين .... و لا زلت أذكر جيدا تلك الخطبة المطولة التي ألقتها على مسامعنا : " ليكن في علمكم أطفالي إنني لا استعمل طباشير الإدارة الحجري ذلك انه يؤثر على أصابعي و أظافري و بصري و يغير لون شعري .. كما أن مجرد لمسه يصيبني بالتقزز و الاشمئزاز ! لهذا فكل واحد منكم ملزم بـإحضـار عـلبة طباشير من النوع الرفيع الذي لا يخلف غبارا ، كما أنكم أحبائي مطالبون بتغليف طاولاتكم و شراء ستائر للنوافذ . لأجل هذا سأعمل على فتح حساب شخصي لكل واحد منكم نحيي بما توفر لنا فيه من نقود حفلتي رأس السنة و اختتام السنة الدراسية . و تأكدوا أن كل من تهاون في تنفيذ أوامري سأخصم له نقطتين من المعدل و سأطرده إلى حين ...!.
و لن أنسى أيضا تلك الضحكة الماكرة التي ارفق بها " الجيلالي " قوله : " حيث إن المسالة فيها شراء و خصم و طرد فأنا مطالب بتدبير خطة قتل... " لكنه اكتفى بإفقادها نعمة البصر بالطباشير المسموم الذي جلبه لها ...